شرح ستة مواضع من السيرة
الإمام محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله تعالى)
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
تأمل - رحمك الله - ستة مواضع من السيرة ، وافهمها فهماً حسناً ،
لعل الله ان يفهمك دين الانبياء لتتبعه ودين المشركين لتتركه ،
فإن أكثر من يدعي الدين ويعد من الموحدين لا يفهم الستة كما ينبغي .
الأول [ قصة نزول الوحي ]وفيها أن أول آية أرسله الله بها :
( يأيها المدثر * قم فأنذر )
إلى قوله : ( ولربك فاصبر ).
فإذا فهمت أنهم يفعلون أشياء كثيرة يعرفون أنها من الظلم والعدوان ،
مثل الزنا ،
وعرفت أيضاً أنهم يفعلون شيئاً من العبادة يتقربون بها إلى الله ،
مثل الحج والعمرة والصدقة على المساكين والإحسان إليهم وغير ذلك ،
وأجلها عندهم الشرك ،
فهو أجل ما يتقربون به إلى الله عندهم ،
كما ذكر الله عنهم أنهم قالوا :
{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ****** ،
{ ويقولون هؤلاء شفعؤنا عند الله ******
وقال تعالى :
{ إنهم اتخذوا الشيطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ****** .فأول ما أمره الله به الإنذار عنه ،
قبل الإنذار عن الزنا والسرقة وغيرهما ،
وعرفت أن منهم من تعلق على الأصنام ،
ومنهم من تعلق على الملائكة وعلى الأولياء من بني آدم ،
ويقولون : ( مانريد منهم إلا شفاعتهم ! ) ،
ومع هذا بدأ بالإنذار عنه في أول آية أرسله الله بها .
فإن أحكمت هذه المسألة فيا بشراك . . .خصوصاً إذا عرفت أن ما بعدها أعظم من الصلوات الخمس ،
ولم تفرض إلا في ليلة الإسراء - سنة عشر ،
بعد حصار الشعب بسنتين ، وموت أبي طالب ،
وبعد هجرة الحبشة بسنتين - فإذا عرفت أن تلك الأمور الكثيرة والعداوة البالغة . . . كل ذلك عند هذه المسألة قبل فرض الصلاة ، رجوت أن تعرف المسألة .
الموضع الثاني[ أنه صلى الله عليه وسلم لما قام ينذرهم عن الشرك ، ويأمرهم بضده - وهو التوحيد - لم يكرهو ذلك واستحسنوه ، وحدثوا أنفسهم بالدخول فيه ، إلى أن صرح بسب دينهم وتجهيل علماءهم ، فحينئذ شمروا له ولأصحابه عن ساق العداوة ] :
وقالوا : ( سفه أحلامنا ، وعاب ديننا ، وشتم آلهتنا ) ،
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لم يشتم عيسى وأمه ، ولا الملائكة ، ولا الصالحين ، لكن لما ذكر لهم أنهم لا يدعون ولا ينفعون ولا يضرون . . .
جعلوا ذلك شتماً .فإذا عرفت هذا ،
عرفت أن الإنسان لا يستقيم له إسلام - ولو وحد الله وترك الشرك -
إلا بعداوة المشركين والتصريح لهم بالعداوة والبغض ،
كما قال تعالى :
{ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله . . . الآية ****** .فإذا فهمت هذا فهماً جيداً ،
عرفت أن الكثير من الذين يّدعون الدين لا يعرفونها ،
وإلا فما حمل المسلمين على الصّبر على ذلك العذاب والأسر والضرب والهجرة إلى الحبشة ؟ مع أنه صلى الله عليه وسلم أرحم الناس ،
لو يجد لهم رخصة لأرخص لهم ، كيف وقد أنزل الله تعالى :
{ ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ******
فإذا كانت هذه الآية في من وافقهم بلسانه ، فكيف بغير ذلك ؟!
الموضع الثالث [ قصة قراءته سورة النجم ، بحضرتهم ]فلما بلغ : { أفرءيتم اللت والعزى ******
ألقى الشيطان في تلاوته :
( تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم لترتجى )
فظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها ،
ففرحوا بذلك ،
وقالوا كلاماً - معناه - :
( هذا الذي نريد ، ونحن نعرف أن الله هو الضار النافع وحده لا شريك له ،
ولكن هؤلاء يشفعون لنا عنده ) . . .
فلما بلغ السجدة ، سجد وسجدوا معه ،
فشاع الخبر أنهم صافوه ،
وسمع بذلك من بالحبشة فرجعوا ،
فلما أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
عادوا إلى شر مما كانوا عليه ، ولما قالوا له :
( إنك قلت ذلك ) خاف من الله خوفاً عظيماً ،
حتى أنزل الله عليه :
{ وما أرسلنا من رسول من قبلك ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ****** .
فمن فهم هذه القصة ، ثم شك بعدها في دين النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولم يفرق بينه وبين دين المشركين . . .
فأبعده الله ، خصوصاً إن عرف أن قولهم :
( تلك الغرانيق ) الملائكة .
الموضع الرابع [ قصة أبي طالب ] فمن فهمها فهماً حسناً ، وتأمل إقراره بالتوحيد وحث الناس عليه وتسفيه عقول المشركين ومحبته لمن أسلم وخلع الشرك ،
ثم بذل عمره وماله وأولاده وعشيرته في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن مات ، ثم صبره على المشقّة العظيمة والعداوة البالغة ،
لكن لما لم يدخل فيه ، ولم يتبرأ من دينه الأول ، لم يصر مسلماً ،
مع أنه يعتذر من ذلك بأن فيه مسبة لأبيه عبد المطلب ولهاشم وغيرهما من مشايخهم .ثم مع قرابته ونصرته ، استغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
فانزل الله تعالى عليه :
{ ما كان للنبي والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين
ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحب الجحيم ****** .
والذي يبين هذا أنه إذا عرف رجل من أهل البصرة أو الأحساء بحب الدين وبحب المسلمين ، مع أنه لم ينصر الدين بيده ولا ماله ،
ولا له من الأعذار ما لأبي طالب ،
وفهم الواقع من أكثر من يدّعي الدين ،
تبين الهدى من الضلال ، وعرف سوء الأفهام ، والله المستعان .
الموضع الخامس [ قصة الهجرة ]وفيها من الفوائد والعبر ما لا يعرفه أكثر من قرأها ،
ولكن مرادنا الآن مسألة من مسائلها ،
وهي أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يهاجر - من غير شك في الدين وتزيين دين المشركين ،
ولكن محبته للأهل والمال والوطن - فلما خرجوا إلى بدر ،
خرجوا مع المشركين كارهين ،
فقتل بعضهم بالرمي - والرامي لا يعرفه -
فلما سمع الصحابة أن من القتلى فلاناً وفلاناً شق عليهم ،
وقالوا : ( قتلنا إخواننا ) فأنزل الله تعالى :
{ إن الذيم توفهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدن لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً . . . الآيات ****** .
فمن تأمل قصتهم ، وتأمل قول الصحابة :
( قتلنا إخواننا ) أنه لو بلغهم عنهم كلام في الدين ،
أو كلام في تزيين دين المشركين ،
لم يقولوا : ( قتلنا إخواننا ) فإن الله تعالى قد بين لهم - وهم في مكة ،
قبل الهجرة - أن ذلك كفر بعد الإيمان بقوله :
{ من كفر بالله بعد إيمنه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمن ****** .وأبلغ من هذا ما تقدم من كلام الله تعالى فيهم ، فإن الملائكة تقول :
{ فيم كنتم ******
ولم يقولوا : ( كذبتم )
مثل ما يقول الله والملائكة للمجاهد الذي يقول :
( جاهدت في سبيلك حتى قتلت )
فيقول الله :
( كذبت ، بل قاتلت ليقال : جريء )
وكذلك يقولون للعلم والمتصدق :
( كذبت ، بل تعلمت ليقال : عالم ، وتصدقت ليقال : جواد ) . . .
وأما هؤلاء فلم يكذبوهم ، بل أجابوهم بقولهم :
{ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ****** .ويزيد من ذلك إيضاحاً للعارف والجاهل ، الآية التي بعدها ،
وهي قوله تعالى :
{ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ****** فهذا أوضح جداً أن هؤلاء خرجوا من الوعيد ، فلم يبق شبهة ،
لكن لمن طلب العلم بخلاف من لم يطلبه ،
بل قال الله فيهم :
{ صم بكم عمي فهم لا يرجعون . . . الآية ****** .ومن فهم كلام الحسن البصري ، قال :
( ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتّمنّي ،
ولكن ما وقر في القلب ،
وصدقته الأعمال ،
وذلك ان الله تعالى يقول :
{ إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ****** ) .
الموضع السادس [ قصة الردة ، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ] فمن سمعها لا يبقى في قلبه مثقال ذرة من شبهة الشياطين الذين يسمون " العلماء "
وهي قولهم :
( هذا هو الشرك ، لكن يقولون : لا إله إلا الله ، ومن قالها لا يكفر بشيء ! )
واعظم من ذلك وأكبر تصريحهم بأن البوادي ليس معهم من الإسلام شعرة ،
ولكن يقولون : لا إله إلا الله ،
وهم بهذه اللفظة أهل إسلام ،
وحرم الإسلام مالهم ودمهم ،
مع إقرارهم بأنهم تركوا الإسلام كله ،
ومع علمهم بإنكارهم البعث واستهزائهم بمن أقرّ به ،
واستهزائهم وتفضيلهم دين آباءهم المخالف لدين النبي صلى الله عليه وسلم ،
ومع هذا كله يصرخ هؤلاء الشياطين المردة الجهلة :
( أن البدو أسلموا ، ولو جرى ذلك كله ، لأنهم يقولون : أن لا إله إلا الله ) ،
ولازم قولهم أن اليهود أسلموا لأنهم يقولونها ،
وأيضاً كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود بأضعاف مضاعفة
- أعني البوادي المتصفين بما ذكرنا -
والذي يبين ذلك من قصة الرّدّة ،
أن المرتدين افترقوا في ردّتهم ،
فمنهم من كذّب النبي صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى عبادة الاوثان ،
وقالوا : ( لو كان نبياً ما مات ! ) ،
ومنم من ثبت على الشهادتين ، ولكن أقرّ بنبوّة مسيلمة ،
ظناً أن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في النبوة ،
لأن مسيلمة أقام شهود زور ،
شهدوا له بذلك ،
فصدقهم كثير من الناس ،
ومع ذلك أجمع العلماء أنهم مرتدّون - ولو جهلوا ذلك -
ومن شكّ في ردّتهم فهو كافر .
فإذا عرفت أن العلماء اجمعوا أن الذين كذبوا ورجعوا إلى عبادة الأوثان
وشتموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
هم ومن اقرّ بنبوّة مسيلمة في حال واحدة ،
ولو ثبت على الإسلام كله .
ومنهم من أقرّ بالشهادتين ، وصدق طليحة بن خويلد الأسدي في دعواه النبوّة ،
ومنهم من صدق عيهلة بن كعب الأسود العنسي - صاحب صنعاء -
وكل هؤلاء أجمع العلماء أنهم سواء .
ومنهم من كذب النبي صلى الله عليه وسلم ورجع إلى عبادة الأوثان على حال واحدة ، ومنهم نوع أخر ، آخرهم الفجاءة السّلمي لما وفد على أبي بكر وذكر له أنه يريد قتال المرتدين ويطلب من أبي بكر أن يمدّه ،
فأعطاه سلاحاً ورواحل ، فاستعرض السّلمي المسلم والكافر يأخذ أموالهم ،
فجهز أبو بكر جيشاً لقتاله ،
فلما أحسّ بالجيش ، قال لأميرهم :
( أنت أمير أبي بكر ، وأنا أميره ، ولم أكفر )
قال الأمير : ( إن كنت صادقاً فألق السّلاح ) فألقاه ،
فبعث به إلى أبي بكر ، فأمر بتحريقه بالنار وهو حي . . .
فإذا كان هذا هو حكم الصحابة في هذا الرجل ،
مع إقراره بأركان الإسلام الخمسة ،
فما ظنك بمن لم يقر من الإسلام إلا بكلمة واحدة ،
إلا أن يقول: ( لا إله إلا الله ) بلسانه مع تصريحه بتكذيب معناها ،
وتصريحه بالبراءة من دين محمد صلى الله عليه وسلم ،
ومن كتاب الله تعالى ؟!
ويقولون هذا دين الحضر ودين آبائنا ، ثم يفتون هؤلاء المردة الجهال :
( أن هؤلاء مسلمون ! ولو صرحوا بذلك كله ، إذا قالوا : لا إله إلا الله ! )
سبحانك هذا بهتان عظيم .وما أحسن ما قال واحد من البوادي ، لما قدم علينا وسمع شيئاً من الإسلام ،
قال : ( أشهد أننا كفار - يعني هو وجميع البوادي -
واشهد أن المطوع الذي يسمينا أهل الإسلام أنه كافر ! ) .
تم والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
--------------
شيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب
- رحمه الله -
المصدر
متن شرح ستة مواضع من السيرة