رد: السيرة النبوية العطرة
تفسير الحديث أعلاه
قوله : ( باب التهجد بالليل ) في رواية الكشميهني :
" من الليل " . وهو أوفق للفظ الآية ،
وسقطت البسملة من رواية أبي ذر .
وقصد البخاري إثبات مشروعية قيام الليل مع عدم التعرض لحكمه ،
وقد أجمعوا - إلا شذوذا من القدماء - على أن صلاة الليل ليست مفروضة على الأمة ،
واختلفوا في كونها من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي تصريح المصنف بعدم وجوبه على الأمة قريبا .
قوله : ( وقوله عز وجل : ومن الليل فتهجد به زاد أبو ذر في روايته " اسهر به " وحكاه الطبري أيضا ،
وفي المجاز لأبي عبيدة : قوله : فتهجد به أي اسهر بصلاة .
وتفسير التهجد بالسهر معروف في اللغة ، وهو من الأضداد . يقال تهجد إذا سهر ، وتهجد إذا نام ، حكاه الجوهري وغيره .
ومنهم من فرق بينهما فقال : هجدت نمت ، وتهجدت سهرت ، حكاه أبو عبيدة وصاحب العين ،
فعلى هذا أصل الهجود : النوم ، ومعنى تهجدت : طرحت عني النوم .
وقال الطبري : التهجد السهر بعد نومة ، ثم ساقه عن جماعة من السلف . وقال ابن فارس : المتهجد المصلي ليلا .
وقال كراع : التهجد صلاة الليل خاصة .
قوله : نافلة لك النافلة في اللغة الزيادة ، فقيل : معناه عبادة زائدة في فرائضك .
وروى الطبري عن ابن عباس : " أن النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، لأنه أمر بقيام الليل وكتب عليه دون أمته " .
وإسناده ضعيف .
وقيل : معناه زيادة لك خالصة ، لأن تطوع غيره يكفر ما على صاحبه من ذنب ،
وتطوعه هو صلى الله عليه وسلم يقع خالصا له لكونه لا ذنب عليه ، وروى معنى ذلك الطبري وابن أبي حاتم ،
عن مجاهد بإسناد حسن ، وعن قتادة كذلك ، ورجح الطبري الأول وليس الثاني ببعيد من الصواب .
قوله : ( إذا قام من الليل يتهجد ) في رواية مالك ، عن أبي الزبير ، عن طاوس : إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل .
وظاهر السياق أنه كان يقوله أول ما يقوم إلى الصلاة ، وترجم عليه ابن خزيمة ؛
الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا التحميد بعد أن يكبر ، ثم ساقه من طريق قيس بن سعد ،
عن طاوس ، عن ابن عباس قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام للتهجد قال بعد ما يكبر : اللهم لك الحمد
وفي آخره : وكان في دعائه : اللهم اجعل في قلبي نورا الحديث . وهذا قاله لما أراد أن يخرج إلى صلاة الصبح
كما بينه مسلم من رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه .
قوله : ( قيم السموات ) في رواية أبي الزبير المذكورة " قيام السموات " قال قتادة : القيام : القائم بنفسه بتدبير خلقه المقيم لغيره .
قوله : ( أنت نور السموات والأرض ) أي منورهما ، وبك يهتدي من فيهما .
وقيل : المعنى أنت المنزه عن كل عيب ، يقال : فلان منور ؛ أي مبرأ من كل عيب ،
ويقال : هو اسم مدح ؛ تقول : فلان نور البلد ؛ أي مزينه .
قوله : ( أنت ملك السموات ) كذا للأكثر ، وللكشميهني ( لك ملك السموات ) والأول أشبه بالسياق .
قوله : ( أنت الحق ) ؛ أي المتحقق الوجود ، الثابت بلا شك فيه ، قال القرطبي .
هذا الوصف له سبحانه وتعالى بالحقيقة خاص به لا ينبغي لغيره ، إذ وجوده لنفسه ،
فلم يسبقه عدم ، ولا يلحقه عدم ، بخلاف غيره .
وقال ابن التين : يحتمل أن يكون معناه أنت الحق بالنسبة إلى من يدعى فيه أنه إله ، أو بمعنى أن من سماك إلها فقد قال الحق .
قوله : ( ووعدك الحق ) أي الثابت ، وعرفه ونكر ما بعده ؛ لأن وعده مختص بالإنجاز دون وعد غيره ،
والتنكير في البواقي للتعظيم ، قاله الطيبي . في مخطوطة الرياض : القرطبي .
واللقاء وما ذكر بعده داخل تحت الوعد ، لكن الوعد مصدر ، وما ذكر بعده هو الموعود به ،
ويحتمل أن يكون من الخاص بعد العام كما أن ذكر القول بعد الوعد من العام بعد الخاص ، قاله الكرماني .
قوله : ( ولقاؤك حق ) فيه الإقرار بالبعث بعد الموت ، وهو عبارة عن مآل الخلق في الدار الآخرة
بالنسبة إلى الجزاء على الأعمال . وقيل : معنى ( لقاؤك حق ) أي الموت ، وأبطله النووي .
قوله : ( وقولك حق ) تقدم ما فيه .
قوله : ( والجنة حق والنار حق ) فيه إشارة إلى أنهما موجودتان ، وسيأتي البحث فيه في بدء الخلق .
قوله : ( ومحمد صلى الله عليه وسلم حق ) خصه بالذكر تعظيما له ،
وعطفه على النبيين إيذانا بالتغاير بأنه فائق عليهم بأوصاف مختصة ، وجرده عن ذاته كأنه غيره ،
ووجب عليه الإيمان به وتصديقه مبالغة في إثبات نبوته كما في التشهد .
قوله : ( والساعة حق ) أي يوم القيامة ، وأصل الساعة : القطعة من الزمان ،
وإطلاق اسم الحق على ما ذكر من الأمور معناه أنه لا بد من كونها ، وأنها مما يجب أن يصدق بها .
وتكرار لفظ " حق " للمبالغة في التأكيد .
قوله : ( اللهم لك أسلمت ) أي انقدت وخضعت ( وبك آمنت ) أي صدقت
( وعليك توكلت ) أي فوضت الأمر إليك تاركا للنظر في الأسباب العادية ليس هذا التفسير بجيد ،
والصواب في تفسير التوكل عند أهل التحقيق أنه الاعتماد على الله ، والثقة به ، والإيمان بأنه مقدر الأشياء ،
ومدبر الأمور كلها مع النظر في الأسباب العادية من العبد وقيامه بها .
فالتوكل مركب من شيئين ؛ أحدهما الاعتماد على الله ، والثقة به ، والتفويض إليه لكونه قد علم الأشياء وقدرها ،
وله القدرة الشاملة والمشيئة النافذة .
والثاني النظر من العبد في الأسباب الدينية والدنيوية ، وقيامه بها ، والله أعلم ( وإليك أنبت ) ؛ أي رجعت إليك في تدبير أمري .
قوله : ( وبك خاصمت ) أي بما أعطيتني من البرهان ، وبما لقنتني من الحجة .
قوله : ( وإليك حاكمت ) أي كل من جحد الحق حاكمته إليك ، وجعلتك الحكم بيننا ،
لا من كانت الجاهلية تتحاكم إليه من كاهن ونحوه .
وقدم مجموع صلات هذه الأفعال عليها إشعارا بالتخصيص ، وإفادة للحصر ،
وكذا قوله : ( ولك الحمد ) وقوله : ( فاغفر لي ) قال ذلك مع كونه مغفورا له ،
إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه وإجلالا وتعظيما لربه ، أو على سبيل التعليم لأمته لتقتدي به ، كذا قيل ،
والأولى أنه لمجموع ذلك ، وإلا لو كان للتعليم فقط لكفى فيه أمرهم بأن يقولوا .
قوله : ( وما قدمت ) أي قبل هذا الوقت ( وما أخرت ) عنه .
قوله : ( وما أسررت وما أعلنت ) أي أخفيت وأظهرت ، أو ما حدثت به نفسي ، وما تحرك به لساني .
زاد في التوحيد من طريق ابن جريج ، عن سليمان ( وما أنت أعلم به مني ) وهو من العام بعد الخاص أيضا .
قوله : ( أنت المقدم وأنت المؤخر ) قال المهلب : أشار بذلك إلى نفسه ؛ لأنه المقدم في البعث في الآخرة ،
والمؤخر في البعث في الدنيا .
زاد في رواية ابن جريج أيضا في الدعوات :
( أنت إلهي لا إله لي غيرك ) . قال الكرماني : هذا الحديث من جوامع الكلم ؛
لأن لفظ القيم إشارة إلى أن وجود الجواهر وقوامها منه ، والنور إلى أن الأعراض أيضا منه ،
والملك إلى أنه حاكم عليها إيجادا وإعداما يفعل ما يشاء ، وكل ذلك من نعم الله على عباده ،
فلهذا قرن كلا منها بالحمد ، وخصص الحمد به .
ثم قوله : ( أنت الحق ) إشارة إلى المبدأ ، والقول ونحوه إلى المعاش ، والساعة ونحوها إشارة إلى المعاد ،
وفيه الإشارة إلى النبوة وإلى الجزاء ثوابا وعقابا ، ووجوب الإيمان والإسلام ، والتوكل والإنابة ،
والتضرع إلى الله والخضوع له ، انتهى . وفيه زيادة معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة ربه ،
وعظيم قدرته ، ومواظبته على الذكر والدعاء والثناء على ربه ، والاعتراف له بحقوقه ،
والإقرار بصدق وعده ووعيده ، وفيه استحباب تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب اقتداء به صلى الله عليه وسلم .
|