طلب مسلمو يثرب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد بيعة العقبة الصغرى ( الأولى ) أن يبعث معهم من يعلمهم الدين ويبين لهم قواعده ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه ، وقد نجح رضي الله عنه في مهمته نجاحا باهرا ، فما من بيت من بيوت الأنصار في المدينة إلا دخله الإسلام ، فعلى ولاة الأمر أن يختاروا السفير التقي الموهوب .
بعد ما يقارب عام من إرساله عاد مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى مكة ، يحمل للنبي صلى الله عليه وسلم بشائر الفوز ويقص عليه خبر قبائل يثرب وما فيها من مواهب الخير ومالها من قوة ومنعة ، وفي هذا النجاح منقبة عظيمة لمصعب رضي الله عنه فإن كل من أسلم على يديه من أهل يثرب في ميزان حسناته يوم القيامة وهذا هو جزاء الدعاة إلى الهدى في كل زمان ومكان نسأل الله أن يجعلنا منهم .
اجتمع المسلمون الذين صارت لهم في يثرب شوكة فقالوا : حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي الأذى ويسام العذاب هو ومن معه من مسلمي مكة ، فلابد أن ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم ليعيش بيننا في يثرب معززا مكرما ، وهذا يدل على تحملهم المسؤولية رغم حداثة عهدهم بالإسلام فرضي الله عنهم وأرضاهم .
لما كان موسم الحج في العام الثالث عشر من النبوة جاء وفد من مسلمي يثرب ضمن حجيج قومهم ، واتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتواعدوا أن يلتقي بهم في منى عند جمرة العقبة في أوسط أيام التشريق .
لا يخف على المسلم فضل صيام عاشوراء لحديث " ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء ، وهذا الشهر يعني شهر رمضان " .
وحديث " صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" .
وحديث "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود ، وصوموا قبله يوما أو بعده يوما " .
فينبغي للمسلم أن لا يغفل عن هذا الثواب ويتأسى بسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام .
قال كعب بن مالك : واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة في أوسط أيام التشريق ، وكنا نكتم أمرنا عن مشركي قومنا وكان معنا عبدالله بن عمرو بن حرام ولم يكن مسلما ، فأخبرناه وقلنا له إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك أن تكون حطبا للنار غدا ، ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحضر معنا .
قال كعب بن مالك وهو يحدث عن الليلة التي كانت فيها بيعة العقبة الثانية ( الكبرى ) : بتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا ( القطا نوع من الطير يمشي أحيانا على رجل واحدة ) ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا وامرأتان وهن نسيبة بن كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي رضي الله عنهم أجمعين .
قال العباس : يا معشر الخزرج إن محمدا منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه ، وهو في عز من قومه ومنعة في بلده ، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم ، فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده .
لما أكمل العباس كلامه ، قال الأنصار : قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله ، وخذ لنفسك وربك ما أحببت ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم ونساءكم وأبناءكم .
قال أحد أعضاء وفد يثرب وهو العباس بن عبادة : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ قالوا نعم ، قال : إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه ، فمن الآن فدعوه ، فهو والله خزي الدنيا والآخرة إن فعلتم .
قال أحد أعضاء الوفد وهو أبو الهيثم التيهان : إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها – يعني اليهود الذين كانت لهم أحلاف مع العرب - فهل عسيتم إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : " بل الدم الدم الهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم " .
قال الأنصار لما سمعوا كلام العباس بن عبادة رضي الله عنهم : إنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، ثم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : فما لنا بذلك إن نحن وفينا ؟ قال : الجنة ، قالوا : ابسط يدك فبسط يده فبسطوا أيديهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
قال الأنصار لأسعد بن زرارة وهو قابض بكف رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أسعد أبعد يدك ، فوالله لا نترك هذه البيعة ، وحينئذ عرف أسعد بن زرارة رضي الله عنه من كلام قومه مدى استعدادهم للتضحية في سبيل الله ، فضرب على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا .
بعد مبايعة أسعد بن زرارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بدأت البيعة العامة ، حيث قاموا رجلا رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعونه ويعطيهم على ذلك الجنة ، أما بيعة المرأتين اللتين شهدتا الواقعة فكانت قولا ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صافح امرأة أجنبية قط .
قال جابر رضي الله عنه وهو يخبر عن بنود بيعة العقبة الثانية : قلنا يا رسول الله علام نبايعك قال : على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تقولوا في الله ولا تأخذكم في الله لومة لائم ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعونني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة .