مرحلة الانتشار الإستراتيجي في منطقتي عسير والحجاز :
بعد أن استكمل الملك عبد العزيز كيانه الإستراتيجي نظر إلى واقعه ( الجيوبو لوتيكي ) ، فوجده واقعاً معزولاً في الصحراء ، تحف به الرمال ، فتطمس العالم ، وهو لا يرضى لكيانه السياسي ولا لدعوته السامية أن تكون في عزلة عن الأمة ، ففكر في الانتشار الإستراتيجي؛ حتى يصل بكيانه إلى البحار شرقاً وغرباً .
لم يكن فكره – رحمه الله – قاصراً يبحث عن مكاسب ذاتية لنفسه وأسرته ، ولم يكن فكره – رحمه الله – فكراً مستقبلياً ذاتياً يبتغي من ورائه المجد الزائف ، بل كان فكراً إستراتيجياً عميقاً يدرك الأمور بأبعادها الحقيقية .
كان – رحمه الله – على يقين تام بأن دعوة التوحيد هي في هذه الأمة ، ويجب أن توظف لتحقيقها جميع الإمكانات العسكرية والسياسية والاقتصادية ، فكان – رحمه الله – يتحمل بدعوته معاناة الأمة .
كان – رحمه الله – يرى أن الدعوة إلى التوحيد ليست مجرد نداء إلى الناس بالعودة إلى الله وحده ، ولا بهدم القبور فقط ومحاربة البدع فحسب ، بل إن الدعوة إلى التوحيد بمفهومها العميق تتمثل في رفع المعاناة عن الأمة العربية بصفة خاصة ، والأمة الإسلامية بشكل عام ، هذا المعاناة تتمثل في الشرك والجهل والفقر والاستعمار .
لقد تأسى بفكر النبي e وبمفهومه العميق لدعوة التوحيد ، لقد قال عليه الصلاة والسلام لقريش وهو يبحثون عن الذات: ( كلمة تسودون بها العرب ، وتحكمون بها العجم ) ، فقالوا له : ( وعشر كلمات وأبيك ) ، قال : تقولون : ( لا إله إلا الله ) ، فقال أحدهم : ( والله لا نطيق ذلك ) ، لقد أدركت قريش عمق المعنى ، لكنها لم تصل إلى أبعاد الحقيقة .
إن الأمم لا تسمو إلا بفكرها ؛ فالملك عبد العزيز – رحمه الله – لم يكن مجرد قائد إداري أو قائد عسكري ، بل كان أيضاً قائداً فكرياً عرف كيف يتعامل مع الاستعمار ، وعرف كيف يتعامل مع التمزق الذي كان تعيشه الجزيرة العربية ، وعرف كيف يتعامل مع الفساد الذي ألمَّ بكثير من الشعوب الإسلامية ، فمن أين جاءه الفكر وهو صبي في فجر العشرينيات من العمر ؟
لقد خرج والد الملك عبد العزيز الإمام عبد الرحمن من نجد إلى الكويت بأهله وعشيرته الأقربين ، لقد أخلى الساحة في نجد لابن رشيد ، خرج – رحمه الله – بإرادته، لم يكن مطروداً ولا مهزوماً ، فالفرصة للقتال كانت متاحة ، والمؤيدون له ولآل سعود ينتشرون في نجد وباقي مدن الجزيرة العربية ، لكن الإمام عبد الرحمن خرج ليعود بعد أن يعد نفسه وأبناءه من جديد ، لقد خرج لإعداد الرجال لتحمل المسؤولية وحمل الأمانة ؛ لأن أمانة الدعوة وأمانة القيادة ليست بالأمر الهين ولا باليسير .
لقد عاد الملك عبد العزيز بهؤلاء الرجال الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الدعوة، حملوا على أعناقهم أمانة التاريخ ، فما منهم أحد إلا وله بطولات تسجل ، وعمل مجيد يذكر ، يتلألأ في صفحات التاريخ وفي سيرة الملك عبد العزيز .
لقد وجد أمير الكويت الشيخ مبارك الصباح في الإمام عبد الرحمن الفكر الثاقب والإدراك العميق ، فكان لا يقطع أمراً دون مشورته ، فكان الإمام عبد الرحمن نعم الأمين ونعم الصاحب .
لقد أسهم الإمام عبد الرحمن في حماية الكيان السياسي للشيخ مبارك الصباح بنفسه وأبنائه ، فقد بعث بالملك عبد العزيز – رحمه الله – مع حشد من عشيرته وأتباعه ومؤيديه إلى الرياض عام 1318هـ / 1901م للهجوم عليها لتخفيف وطأة الهجوم الذي شنه ابن رشيد على القوات الكويتية في معركة ( الصريف ) .
كما أنجده الإمام عبد الرحمن حين طلب منه الشيخ مبارك المعونة لإيقاف ابن الرشيد الذي اتجه مهاجماً للكويت إثر هزيمته أمام الملك عبد العزيز في ( معركة الدلم ) ومطاردته ، فاتجه الملك عبد العزيز بعشرة آلاف مقاتل ، ما إن سمع بها ابن الرشيد حتى ترك الهجوم على الكويت ، وعاد إلى حائل .
أخيراً استطاع الملك عبد العزيز أن يكفي الشيخ مباركاً تهديد آل الرشيد المزمن عندما فتح حائل في 29 صفر سنة 1340هـ الموافق 2/11/1921م .
وأخيراً واصل أبناء عبدالعزيز الأمانة والوفاء للكويت عندما قادت المملكة العربية السعودية بعد قرن من الزمان تقريباً في عهد خادم الحرمين الشريفين القوات الدولية لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي .
أراد الملك عبد العزيز أن يحقق الانتشار الإستراتيجي ، ويستكمل منظومته الإستراتيجية، فيكون هذا الكيان العربي المسلم منتشراً في أرجاء الجزيرة العربية .
لقد نظر – رحمه الله – إلى منطقة ( عسير ) ، فوجد أن الدعوة السلفية قد استوطنت فيها منذ الدولة السعودية الأولى ، لكن الظلم خيم على عسير في عهد الأمير حسن بن عائض ، فاستنجدت القبائل وأهل المدن بالملك عبد العزيز لإنقاذهم ، فبادر – رحمه الله – إلى التحرك تجاه عسير لفتحها بادئاً بالنصح .
ونظر – رحمه الله – إلى الحجاز ، فوجد بعض الوافدين والحجاج ينتهكون حرمات المشاعر ببعض الممارسات البدعية التي لا تتفق مع أصول الشريعة الإسلامية ، حتى ضـــاق بهم علماء الحجاز ، وعندما بدأ الشريف حسين بن علي بالتحرشات بادر – رحمه الله – إلى تخليص الحجاز من هذه الممارسات ، وضمه إلى مواكب التوحيد .
أما بالنسبة للجنوب وشرق الجزيرة فقد كانت واقعة تحت هيمنة الاستعمار البريطاني الذي كان يسيطر على الممرات البحرية ، ومن غير الحكمة الدخول في مواجهة مع بريطانيا قبل أن تتأهل الأمة لذلك .
لقد عايش الملك عبد العزيز انتزاع الشيخ مبارك الصباح الحكم من أخيه محمد عام 1897م ، وكان في الكويت عندما عرض القيصر الألماني على الشيخ مبارك فتح منفذ لخط برلين بغداد ، فرفض الأمير ، فعرض الأمر على السلطان العثماني الذي أمر بعزل الشيخ مبارك .
انتهزت بريطانيا الفرصة ، وتقدمت تعرض الحماية على الكويت ، فتم الاتفاق بينهما ، عندئذ عمدت تركيا إلى تحريض ابن رشيد على احتلال الكويت ، وبعد الحرب العالمية الثانية دخلت العراق تحت السيطرة البريطانية .
لقد بدأت فكرة الانتشار الإستراتيجي عند الملك عبد العزيز إثر سقوط حائل عام 1340هـ / 1921م ، واستغرقت عملية الانتشار ست سنوات ضم خلالها منطقتي عسير والحجاز .
يتبع ،،