.
.
لقد علمني هذا الرجل أن الكلمةَ لها لحنٌ وأنها مخلوقٌ مختلف عندما تلدُها شفاهٌ مختلفةٌ وقلوبٌ مختلفةٌ
البنفسجُ زهرٌ حزين..هكذا تقول كلُّ الأشعار, ولكني اليومَ أيقنتُ بهذا الحزن لأنني عشته عندما تسربَ إلى قلبي وانتشر عطرُه بخشوع في عروقي..فاعتقلني لونُه الأزرق وأجبرني على البكاء!!
اليوم عيد, والكل يفرح على طريقته, فحباتُ المطر ارتدتْ ثوبَها اللجينيّ وتناثرتْ تزغرد في عرس الماء والفضة, وغطتِ الدنيا رقائق من نور ونفحاتٌ من حبور!
كانت عجلاتُ السيارات تلهو مع المطر على الطرقات وصوت التراشق يصيبُ الروحَ بفرح استقبال غائب حبيب.
أوقفتِ الشارةُ الحمراء جموحَ سيارتي التي كانت تحتفل كغيرها بعيد المطر وبمطر العيد..أدرتُ وجهي نحو الرصيف وأمام عمود الشارة الضوئية فاجأني حزنٌ عمرُه سبعون عاماً!!
نعم..هو كتلة بشريّة حزينة ترتدي ثياباً شاحبة قديمة بعضها فوق بعض, وقد حاول بنطالُه جاهداً أن يغطي كاحلَه ربما كي يواسي القدمَ التي أصبحتْ حمراء من شدة البرد وقد لاذتْ أصابعُها بما يشبه الحذاء..
لحظات قصيرة جداً ولكنها كانت كافيةً لكسر كؤوس فرحي..
لحظات فرضت قسوتها على سروري فمحتْه, فارتعشتُ وأشفقتُ وتألمتُ وحزنتُ دفعةً واحدة!! واختنقتُ بعبرةٍ حاولتِ الاختباء بين الجفون لئلا تجرحَ كرامةً بشريّة!!
مدّ يداً هزيلة يابسة معروقة كغصن يَبسَ على شجرةِ زيتون عجوز..
أعطاني حزمةً من بنفسج كان يحملُ بعضاً منها وقال لي محشرجاً: كل عام وأنت بخير!
لأول مرة في حياتي أسمعُ هذه الجملةَ بلحن آخر, بنغم عجيب, بحزن أليم..لقد علمني هذا الرجل أن الكلمةَ لها لحنٌ وأنها مخلوقٌ مختلف عندما تلدُها شفاهٌ مختلفةٌ وقلوبٌ مختلفةٌ.
بلهفة امتدتْ يدي إلى جيبي..أخرجتُ ورقة ماليّة ودسستُ دفئَها في برد اليد المعروقة بعد أن تناولتُ حزمةَ البنفسج منها.
أنقظني ضوءُ الشارة الأخضر من سماع شكر لا أريدُ سماعَه بل لا أقوى على سماعِه..فأطلقتُ العنانَ لسيّارتي ودموعي.
نظرتُ إلى البنفسج وقد استلقى بجانبي على المقعد الوثير, رأيتُ أزهارَه تنظرُ إليّ بحزن ودهشة وهي تعطّر روحي بطيبٍ حزين.. تتمتمُ بارتعاش: ما أعجَبَكم أيّها البشَر!!
أرق التحايا وأعذبها مني لكم ..