[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="widt70%;background-color:crimson;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
الإبتلاء سنة إلهية
د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان
لقد أنزل الله تعالى شريعته رحمة للعالمين, وجعلها شاملة لكل ما يحتاجه العباد، ومحققة لمصالحهم في المعاش والمعاد، فما أمر الله تعالى بشيء،أيِّ شيء، إلا لما فيه من الخير والنفع والمصلحة، وما نهى عن شيء، أي شيء، إلا لما فيه من الشر والضرر والمفسدة.
ولهذا كان أكمل المؤمنين إيمانًا، وأسعدهم حالاً ومآلاً، وأطيبهم عيشًا، وأحسنهم عاقبة، أكثرهم تمسكًا بهذا الدين واستقامة عليه، وأقومهم بحقوق الله تعالى وحقوق عباده.
كما أن الصانع أعلم بالآلة التي صنعها، وباني البيت أعلم به من غيره،
فإن الله تعالى أعلم بخلقه ممن عداه { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ******[الملك 14]،
بل إن صانع الآلة أو عامر البيت ـ وإن كان أعلم بما قام به ـ
فإنه يخفى عليه الكثير من خصائص ما صنع ومكوناته، وعمره ومآلاته، وعوارضه وآفاته.
أما الله ـ عز وجل ـ فإنه قد أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وله الخلق والأمر في الآخرة والأولى، لا تخفى عليه خافية، ويعلم ظاهر الأمر وباطنه، ويستوي عنده السر والعلانية، وهو أعلم بخلقه منهم بأنفسهم { قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ******[البقرة 140] ،
{ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ******[الإسراء 85]،
{ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ******[النحل 74].
وإذا كان الله ـ تبارك وتعالى ـ هو الذي خلقنا وخلق العالم كله من حولنا،
فإنه أخبرنا في محكم كتابه أنه لم يخلقنا عبثًا، ولم يتركنا سدى، بل خلقنا ليبتلينا،
كما قال ـ عز وجل ـ: { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا******[الإنسان 2]،
فدلت الآية الكريمة على أن الإنسان إنما خلق للابتلاء والامتحان،
وابتلاه ربه ليتبين الصبور الشكور من الجزوع الكفور، والمؤمن الصادق من الدعي المنافق، والمؤمن القوي من المؤمن الضعيف، ومن يراقب الله ـ تعالى ـ ويخافه ويرجوه، ممن لا يرجو ثوابه، ولا يخاف عقابه، ولا يوقر جنابه.
فهو ـ سبحانه ـ خلقنا لغاية عظيمة، وحكمة جليلة، ألا وهي طاعته وإخلاص العبودية له وحده
قال تعالى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ******[الذاريات 56]،
{صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ******
ولكن هذه العبودية لا تتحقق وتظهر إلا بالابتلاء بأنواع الخير والشر، فالابتلاء ليس مقصودًا لذاته،
وإنما لما يترتب عليه من حصول العبودية أو عدمها، وقوتها أو ضعفها،
ولهذا قال ـ سبحانه ـ: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ******[الأنبياء 35]،
فبين ـ عز وجل ـ أنه يبتلي عباده بالخير والشر، وما يحبون وما يكرهون،
امتحانًا واختبارًا لهم، وتمحيصًا لإيمانهم، وكشفًا لمعادنهم، فالفتنة هي كير القلوب، ومسبار الاختبار، ومحكّ الإيمان
وبها يتبين الصادق من الكاذب، والبر من الفاجر، والمؤمن من الكافر، والطيب من الخبيث، وبها ينقسم المؤمنون إلى طبقات كثيرة،ومراتب مختلفة بحسب إيمانهم وجهادهم، وشكرهم وصبرهم وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ******
{هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ****** [آل عمران 163].
وقد أنكر الله ـ تعالى ـ على من يظن أنه يسلم من الابتلاء والامتحان،
وهو يدعي الإيمان فقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ******[العنكبوت 2]،
أي: أوقع في حسبانهم أنهم لن يمتحنوا في إيمانهم؟ وسيتركون على مجرد الادعاء بلا امتحان وابتلاء؟
فالفتنة على الإيمان سنة جارية، وحقيقة ثابتة، وهي عادة الله في الأولين والآخرين.
وسر هذه الفتنة وغايتها تبيين الصادق من الكاذب، والمؤمن من الكافر
{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ******[العنكبوت 3].
ثم بين ـ سبحانه وتعالى ـ أنهم ملاقوه وأن مرجعهم جميعًا إليه ليجنوا ثمرة مواقفهم تجاه هذا الابتلاء، وليجازيهم على أعمالهم، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ******
وقال ـ عز وجل ـ مؤكدًا هذه الحقيقة: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ****** ،
وقال ـ سبحانه ـ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً******
أي: أنه إنما خلق الموت والحياة، والسموات والأرض، وما تضمناه من آيات وعظات، ومسرات ومضرات، ومفرحات ومحزنات، وحسنات وسيئات،
من أجل أن يبلو أخباركم، ويمتحن إيمانكم، ويجازيكم على حسب أعمالكم.
كما دلت الآيتان الكريمتان على أن هذه الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وأن كل ما يلقاه الإنسان فيها من خير وشر،
وسراء وضراء، وزين وشين، ومحبوب ومكروه، فإنما هو اختبار له،
وتمحيص لإيمانه، وكشف لحقيقة صبره وشكره، أو جزعه وكفره.
ودل على ذلك أيضًا قوله ـ تعالى ـ: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ******[الأعراف 168]،
أي: بالرخاء والشدة، والمصيبة والنعمة، والمرض والصحة، والضعف والقوة، والفقر والجدة.
وكذلك قوله ـ تعالى ـ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ******[محمد 31].
وتؤكد هذه الحقيقة أيضًا آيات وأحاديث كثيرة تدل على أن الله تعالى زين الدنيا للناس، وجعلها حلوة خضرة، شيقة ماتعة، ملهية فاتنة، غرّارة خادعة، مزيّنة بزينة زائلة، فتنة للناس، وامتحانًا لهم، لينظر كيف يعملون؟
وليتبين من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه،
ومن يرجو الله والدار الآخرة ممن تربعت الدنيا على قلبه، وصارت أكبر همه، ومنتهى آماله !!
قال الله ـ تعالى ـ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا******[الكهف 7]،
وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:"إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون،
فاتقوا الدنيا واتقوا النساء..." رواه مسلم(2742).
والله ـ تعالى ـ يعلم ما العباد عاملون قبل أن يعملوا، بل قبل أن يخلقوا، بل قبل خلق السموات والأرض، وإنما يبتليهم بأنواع الخير والشر، ليتحقق الغيب الذي يعلمه من أحوالهم واقعًا ملموسًا، وعملاً مشاهدًا محسوسًا،
ليجازيهم على حسب أعمالهم، وليس على مجرد علمه السابق بهم،
فهو إنما يعاقب العباد على ما وقع منهم حقيقة، لا على ما يعلمه قبل وقوعه.
وهذا هو معنى قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا******[الملك 2]،
وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ******[محمد 31].
أي: حتى نعلمهم فاعلين ذلك حقيقة، متصفين به واقعًا، وإلا فهو ـ سبحانه ـ عالم الغيب والشهادة، وهو بكل شيء عليم.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "وهو ـ سبحانه ـ قد أحاط علمًا بذلك كله قبل خلق السماوات والأرض،
وقدره وكتبه عنده، ثم يأمر ملائكته بكتابة ذلك من الكتاب الأول قبل خلق العبد، فيطابق حاله وشأنه لما كتب في الكتاب ولما كتبته الملائكة لا يزيد شيئًا ولا ينقص مما كتبه ـ سبحانه ـ وأثبته عنده،
كان في علمه قبل أن يكتبه، ثم كتبه كما في علمه، ثم وجد كما كتبه،
قال ـ تعالى ـ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ******[الحج 70]،
والله ـ سبحانه ـ قد علم قبل أن يوجد عباده أحوالهم وما هم عاملون، وما هم إليه صائرون، ثم أخرجهم إلى هذه الدار ليظهر معلومه الذي علمه فيهم كما علمه، وابتلاهم من الأمر والنهي، والخير والشر بما أظهر معلومه، فاستحقوا المدح والذم والثواب والعقاب
بما قام بهم من الأفعال والصفات المطابقة للعلم السابق، ولم يكونوا يستحقون ذلك وهي في علمه قبل أن يعملوها، فأرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه إعذارًا إليهم، وإقامةً للحجة عليهم، يقولوا كيف تعاقبنا على علمك فينا، وهذا لا يدخل تحت كسبنا وقدرتنا؟
فلما ظهر علمه فيهم بأفعالهم حصل العقاب على معلومه الذي أظهره الابتلاء والاختبار..
فأظهر هذا الابتلاء علمه السابق فيهم موجودًا عيانًا بعد أن كان غيبًا في علمه" شفاء العليل ص: 35-36.
فالله تعالى يعلم حقيقة القلوب وما سيعمله العباد قبل الابتلاء،
ولكن الابتلاء يكشف في عالم الواقع ما هو مكشوف لعلم الله، مغيب عن علم البشر، فيحاسب الناس إذن على ما يقع من عملهم لا على مجرد ما يعلمه ـ سبحانه ـ من أمرهم.
وهو فضل من الله من جانب، وعدل من جانب، وتربية للناس من جانب
فلا يأخذون أحدًا إلا بما استعلن من أمره، وبما حققه فعله، فليسوا بأعلم من الله بحقيقة قلبه!
..................................
[/ALIGN][/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]