صلاة القبر.. جدل الفكر وغياب الفقه
مسعود صبري**
دار الجدل حول ما عرف بـ"صلاة القبر" التي تقوم بها بعض المعلمات السعوديات من اتخاذ جانب من البيت مع إطفاء المصباح الكهربائي؛ ليكون الجو مظلمًا استحضارًا لحال القبر لترقيق القلوب؛ وذلك بسبب فقدهن الخشوع في الصلاة، ووصفت هذه التصرفات بأنها بدعة من قبل بعض الكتاب وأحد الدعاة، ومع كل ذلك لم يسمع فيها قول الفقهاء أصحاب الفصل في القضية؛ فالحكم على هذه الطريقة بأنها بدعة محرمة يجب أن يرجع فيه إلى أهل الذكر؛ احتراما للتخصص، وأن نرضى بقولهم مهما كانت نتيجته، ونقبل الخلاف منهم ما دام مستندا على أدلة شرعية، حسب فهم الشيوخ للنصوص الشرعية التي تعتبر أدلة في المسألة.
ضوابط الحكم
وقبل أن نحكم على هذه الطريقة بأنها بدعة محرمة أم لا، يجب أن نستحضر الأدلة والقواعد الشرعية المتعلقة بها، ومن هذه القواعد -والتي استند إليها من قال بالتحريم- أن هذه الطريقة لم يكن لها مثيل في الشرع، وهو أمر يتفرع عن مفهوم البدعة المحرمة، ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته السيدة عائشة، وهو في الصحيح: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد"، وتفرع عن ذلك قاعدة فقهية تقول: الأصل في العبادات التوقف؛ فالعبادات ليست مجالا للاجتهاد، هذه هي الأدلة والفرضيات الفقهية التي بني عليها الحكم.
والذي لا خلاف في حرمته ابتداع صلاة جديدة تعرف بـ"صلاة القبر"، وأن تكون صلاة ركعتين في وقت معين وفي مكان معين، وقد تكون بقراءة سور معينة؛ فهي بهذا الشكل بدعة منكرة، يستند في تحريمها على الأدلة والقواعد السابقة.
أما أن يصلي الناس ركعتين بالليل تندرج تحت قيام الليل من باب طلب الخشوع في الصلاة؛ فلا يمكن الحكم عليها بأنها بدعة ولا أنها حرام، وذلك أن السعي لتهيئة النفس للخشوع في الصلاة أمر وارد عن السلف من الصحابة وغيرهم؛ فقد كانوا يستعدون قبل الصلاة وترتعش فرائصهم، ورد هذا عن علي رضي الله عنه وغيره، بل ورد عن حاتم الأصم رضي الله عنه أنه سئل عن صلاته فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، وأكبر تكبيرًا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعا بتواضع، وأسجد سجودًا بتخشع، وأقعد على الورك اليسرى وأفرش ظهر قدمها، وأنصب القدم اليمنى على الإبهام وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا؟
صلاة الصالحين
فكان الصالحون إذا دخلوا في الصلاة استحضروا عظمة الله تعالى، وتذكروا القبر والعذاب والجنة والنار والحساب حتى يكون أدعى لنسيان الدنيا.
وقد ورد في بعض الأحاديث فضل صلاة الصبح والفجر؛ لأنهما في الظلمة؛ فيكون قيام المرء بالصلاة ليلا من باب مجاهدة النفس، ومن المعلوم أن الصحابة والسلف حين كانوا يصلون بالليل لم يكن عندهم من المصابيح الكهربائية التي تنير ما تنير عندنا، ولم يكن هذا باب إنكار عليهم، وأن الإنسان يجب عليه أن يصلي في مكان مضاء ليس هذا شرطا، المهم أن يخشع في صلاته، سواء أكان في مكان مظلم أم في مكان مضاء، وبنو البشر يختلفون فيما بينهم، وما يصلح لواحد لا يصلح لآخر، وإن كان البعض يرى أن الصلاة في الضوء أدعى، فإن غالب السلف يرون أن الصلاة في الظلم أدعى للخشوع.
مشروعية صلاة الظلمة
أما تذكر الموت عند الصلاة فمشروع، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "صل صلاة مودع، فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك".
وكذلك الصلاة في ظلمة الليل مشروعة أيضا، وفيها حديث أبي ذر يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وموقوفا على أبي ذر، ونصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: "لو أردت سفرًا أعددت له عدة؟ قال: نعم، قال: فكيف سفر طريق القيامة، ألا أنبئك يا أبا ذر بما ينفعك ذلك اليوم؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، قال: صم يوما شديد الحر ليوم النشور، وصل ركعتين في ظلمة الليل لوحشة القبور، وحج حجة لعظائم الأمور، وتصدق بصدقة على مسكين، أو كلمة حق تقولها، أو كلمة شر تسكت عنها".
ومع كون الحديث ضعيفا ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يصح موقوفا على أبي ذر، وفهم الصحابي معتبر في غير التشريع.
أما القول بأن هذه الطريقة فيها نوع من الترهيب؛ فالترهيب أسلوب من أساليب التربية كما هو أيضا أسلوب الترغيب، ونحن نحتاج إلى الاثنين معا، كما قال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) (الأعراف:56)، وما أحب مصادرة الرأي، أو الحكر على رأي دون رأي، بل نترك للناس حرية الاختيار، ما لم يكن فعلهم يخالف أمرًا صريحَا، أو يناقض نصا قاطعا، فإن كان الله تعالى وهب الخلق حرية الاعتقاد؛ فلماذا دائما نريد أن نتجه نحو رأي واحد في أمور جعل الله تعالى لنا فيها سعة.
والأخطر من ذلك اتهام الناس بمخالفة الشرع، دون أن نتلمس لأفعالهم وجها صحيحا من الشرع؛ فالتيسير خير من التعسير، أما التشدد فيحسنه كل الناس، وما أسهله.
مع أننا في حاجة إلى نوع من اللين في العلاج، ومن رأيي أن نفرق بين صلاة المعلمات في الظلمة طلبا للخشوع، وبين أن تقوم بهذا فتيات صغيرات قد يؤثر ذلك على نفسيتهن؛ لأن الصلاة في الظلمة ليست شرطا لصحة الصلاة لكنها جائزة، فإن ترتب على صلاة الفتيات الصغيرات ضرر فلا ينصحن بها، وإن لم يترتب على ذلك ضرر لهن فيبقى الأمر على الجواز، والجواز لا يعني أنه يجب على الناس أن يفعلوا هذا الشيء، بل يتساوى فعله وتركه، فمن أراد أن يصلي في الضوء فلا بأس عليه، ومن أراد أن يصلي في الظلمة فلا بأس عليه، على ألا يعتقد أن هذه الصلاة بهذه الكيفية سنة واردة، بل هي طريقة للتدرب على الخشوع.
--------------------------------------------------------------------------------
** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
--------------------------------------------------------------------------------
«
| حقوق النشر محفوظة @ 1999 - 2006 إسلام أون لاين.نت