التخلف الدراسي
أسبــــابـه وعــلاجــه
بعد أن أصبح التعليم مشاعاً للجميع في عصرنا الحاضر صار كل الأطفال الذين يبلغون سن السابعة يدخلون إلى حقل الدراسة، سواء كان ذلك عن حب ورغبة منهم أو إكراهاً من آبائهم وأمهاتهم، ولما كان طلب العلم يحتاج إلى قدرات عقلية معينة تأخذ بيد الطفل إلى النمو المعرفي وزيادة الخبرات العلمية والحيوية كان لا بد من التأكد أولاً من أن قدرات هذا الطفل ملائمة للبدء بعملية التعلم .
إن الواقع التعليمي الذي نعيشه في عصرنا هذا يفرض على جميع الأطفال أصحاب الذكاء العالي والذكاء المنخفض منهجاً واحداً، وكأن هذا المنهاج المقرر يفترض أن جميع عقليات هؤلاء الأطفال في هذه السن هي بمستوى واحد من الإدراك، وفي حقيقة الأمر، أن اعتبار الأطفال بمستوى عقلي واحد خطأ كبير، لأن نمو القدرات العقلية عند طفل قد يختلف كثيراً عنه عند طفل آخر، تماماً كما يحصل الاختلاف في النمو الجسمي.
لذا إذا أردنا الصعود بالطفل ليلاحق التطور المعرفي ويكتسب الخبرات العلمية المفيدة، كان لا بد في البداية من تحديد مستواه العقلي الذي ننطلق منه في التعليم، والذي يحدث الآن أن جميع الطلبة يعرضون على منهج واحد مع أن هناك أطفالاً يعتبر مستواهم الذهني مرتفعاً جداً وهناك المتوسط وهناك المتخلف.
ينتج من هذا الخلط أن طلاباً يتفوقون تفوقاً رهيباً، وطلاباً آخرين يتخلفون تخلفاً كبيراً لا يستطيعون مسايرة زملائهم في الدراسة وتتعاظم مشكلتهم يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة؛ حتى إن ظهر للناس أن هذا الطالب ناجح إلا أن حصيلته العلمية الحقيقية تعتبر لا شيء، وليست درجات النجاح دليلاً أكيداً على استحقاق الطالب للنجاح العلمي العقلي.
ولما كان اهتمامنا في هذا الموضوع منصباً على هؤلاء المتخلفين في الدراسة فانه يجدر بنا أن نبحث عن أسباب هذا التخلف وكيف يمكن علاجه، إن المسؤولية الكبرى في تحديد المستوى العقلي للطفل تقع بالدرجة الأولى على عاتق والديه، لأن الوالدين يحتضنان هذا الطفل منذ رؤيته للنور؛ من أول يوم ولد فيه في هذه الحياة، ويراقبان تطوره الجسمي والعقلي يوماً بعد يوم، ويسجلان كل حركة وكل صوت يصدر منه، وبالتالي يستطيعان تحديد مستواه العقلي بالقياس إلى أقرانه الذين هم في نفس بيئته، ولا ريب؛ أن الطفل لا يعدو أن يكون أحد ثلاثة: أمّا أنه يمتلك قدرات ذهنية فائقة، وأما أنه متوسط الذكاء كغالبية الناس، وأما أنه متخلف عقلياً، ولكل من هذه الحالات الثلاث إشارات وعلامات تدل عليها، وليس هذا مجال توضيح دلائل كل حالة، ولكن من دلائل التخلف العقلي التي يقررها كثير من النفسانيين التأخر الشديد في النطق والتحدث والتأخر في المشي، وعدم القدرة على الاندماج مع الأطفال الآخرين، وظهور تصرفات لا تفسير لها، وعدم القدرة على تحديد العلاقات بين الأشياء.. الخ.
هذه بعض علامات التخلف العقلي التي يمكن ملاحظتها مبكراً في الأطفال، ولا شك أن هذه الدلائل لا تعنى أنها هي الأسباب الكامنة وراء مثل هذا التخلف، فالأسباب تختلف تماما عن الدلائل لان الدلائل هي بمثابة الأعراض المرضية، أما المسببات فهي العوامل التي أدت إلى وجود المرض.
والبحث عن أسباب التخلف العقلي هو المفتاح الذي يوصل إلى العلاج الناجع في رفع قدرات الطفل من مستوى إلى مستوى أفضل.
وهناك كثير من الناس يركز في العلاج على الأعراض ويهمل الأسباب الرئيسية المؤدية إليها، وهذا قصور في الفهم الحقيقي للمشكلة لأن علاج الأعراض لا يعني القضاء على المرض نفسه، إذ قد تظهر أعراض أخرى لم تكن معروفة من قبل ما زال الداء موجوداً، هذا إن صح تشبيه التخلف العقلي بالداء.
ولكي نكون موضوعيين -فعلاً- في التحدث عن التخلف العقلي، لا بد لنا من الدراسة والتشخيص الدقيق لكل المسببات للوصول إلى النتائج الحقيقية الكامنة وراء مثل هذه المشكلة، والدراسات التي أجريت في مجال التخلف العقلي كثيرة جداً، حاولت أن تعطي تفاسير محددة وطرقاً عديدة للعلاج، ومن أهم تلك الأسباب التي أشارت الدراسات إليها عاملان اثنان هما:ـ
1ـ الوراثة.
2ـ البيئة المحيطة.
ويقصد بالوراثة؛ أن هناك أسباباً عضوية متوارثة وعوامل جينية يصعب جداً المساس بها أو تغييرها، وكما أن الصفات المكتسبة لا تورث، فكذلك الصفات المورثة لا تتغير، والباحثون يعنون بذلك أن علاج مثل هذه الحالات فيه صعوبة بالغة جداً، وأما التخلف الناتج عن الوسط البيئي أو الاجتماعي الذي يعيش فيه الطفل فمن السهل جداً علاجه، وإن كان يحتاج إلى وقت كاف وأساليب متنوعة ووسائل متجددة، لأنه مشكلة ناتجة عن تقصير من الوالدين أو من المجتمع المحيط.
ولما كنا -نحن المسلمين- نعتقد أن المواهب العقلية قسمة من الله سبحانه وتعالى -تماماً- كالأرزاق، فعلينا أولاً الرضا بما يقدره الله لنا أو لأولادنا من نصيب مصداقاً لقول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام: «ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس» وهذا الاعتقاد يحل لنا المشكلة إذا كان التخلف العقلي عند الطفل ناتجاً عن أسباب وراثية يصعب علاجها أو تغييرها، ولكن ذلك لا يعني الاستسلام لهذه المشكلة والإهمال التام وعدم الرعاية للطفل المتعرض لها، بل لا بد من اتخاذ الوسائل والأساليب التي ربما تؤدي إلى حلول ناجعة؛ وإن كانت بسيطة وبطيئة، ولا ننسى أن الدعاء أكبر علاج لهذه المشكلة، فإن اعتقادنا بأن الله على كل شيء قدير يدعونا لأنّ نتوجه إليه بالضراعة، لأن يرفع عن هذا الطفل هذا العجز العقلي، علماً بأن للدعاء المخلص شروطاً ينبغي الأخذ بها ومراعاتها، كما أن تلاوة بعض آيات القرآن والأوراد التي تخص جانب العقل والعلم والفهم لا شك لها دور كبير في حل العقد التي تستعصي على الإنسان في فكها وعلاجها، ويجدر بالمسلم أن يرجع إلى أهل العلم للاستفادة منهم في معرفة تلك الآيات والأذكار، ولقد ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يستشفي بالقرآن الكريم، وكان يعلم أصحابه بعض الأدعية لتخلص مما يعانونه من مشكلات وأعراض.
وأما التخلف العقلي الناتج عن التقصير من قبل الوالدين أو من قبل المجتمع، والذي يؤدي بدوره إلى التخلف الدراسي فلذلك أسباب عديدة يمكن إجمالها على النحو التالي:ـ
1ـ ضعف المستوى العلمي والثقافي للوالدين أو المجتمع عموماً.
2ـ ضعف المستوى المادي للأسرة «الفقر».
3ـ اشتغال الوالدين وإهمالهما للطفل.
4ـ عدم توفر الوسائل والإمكانيات المعينة للتطور المعرفي.
وبالنظر إلى هذه الأسباب فإن طرق علاجها لا يمكن أن تحدث في يوم وليلة، بل لا بد من وقت طويل تبذله مؤسسات المجتمع المختلفة؛ الثقافية والاجتماعية والتربوية والإدارية ونحوها، كما أن على الأفراد المساهمة في التوعية والإرشاد ومد يد العون لإخوانهم للتخلص مما هم فيه من أزمات، فعلى الأغنياء حق للفقراء في تحسين مستوى المعيشة وتوفير سبل العيش الكريم لهم من أجل تهيئة جو مناسب للطفل للدراسة والتعليم، والآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تحض على الإنفاق وإعانة ذي الحاجة أكثر من أن تحصى، كما أن على المتعلمين المساهمة في توعية وتعليم أبناء وطنهم ورفع مستوى الإدراك والمعرفة لديهم، وإذا ما تضافرت الجهود من قبل كل الجهات بعد دراسة الواقع؛ فإنه -لا شك- سيمكن التغلب على تلك المشكلات التي تعتبر أسباباً رئيسية في عرقلة النمو الفكري لدى الأطفال، لأن تلك الأسباب هي التي تسبب التخلف العقلي المكتسب وليس الموروث، حيث إن الطفل في مثل هذه الحالة يمتلك القدرات العقلية ولكنه لا يجد المجال لتنميتها والاهتمام بها.
وإذا ما تم علاج تلك الأسباب فإن شوطاً كبيراً يكون قد قطع في سبيل تنشئة الطفل على نظام تعليمي معين، بشرط تحديد نسبة الذكاء أولاً أو المستوى العقلي لديه، ومن ثم تحديد الطرق والأساليب والمناهج المناسبة في تعليمه؛ وتعويده العادات السليمة في كسب المعارف وتنظيم وقته بالشكل المناسب، ومساعدته في التغلب على المشكلات التي تعترضه وإبعاده عن مجالات الإهمال واللهو الزائد.