جعفر بن أبي طالب القائد والشهيد الثاني
حمل الراية بعد زيد بطل آخر هو جعفر بن أبي طالب ذلك البطل الشاب المجاهد ابن الأربعين عامًا آنذاك، وقد قضى معظم هذه السنوات الخوالي في الإسلام، حيث أسلم في أوائل أيام الدعوة، وقضى ما يقرب من خمس عشرة سنة في بلاد الحبشة مهاجرًا بأمر الرسول ، ثم عاد منها إلى المدينة المنورة في محرم سنة سبع من الهجرة، كان الرسول حينها في خيبر، فلم يَقَرّ له قرار حتى ذهب ليجاهد معه برغبة حقيقية صادقة في البذل والتضحية.
ثم كانت هذه المعركة الهائلة، وقد حمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة، وقاتل قتالاً لم يُرَ مثله، وأكثر t الطعن في الرومان حتى تكالبوا عليه.
كان يحمل راية المسلمين بيمينه فقطعوا يمينه، فحملها بشماله فقطعوا شماله، فحملها بعضضيه قبل أن يسقط شهيدًا، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث، هو عبد الله بن رواحة أجمعين.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما -كما جاء في البخاري-: "وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعددتُ به خمسين، بين طعنةٍ وضربة، ليس منها شيءٌ في دبره". أي: ليس منها شيء في ظهره؛ يعني أنه قاتل دائمًا من أمام، لم يفر ولو للحظة واحدة
ومن أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها، بل يطير بجناحين، فقد روى الحاكم والطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: "رَأَيْتُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَلَكًا فِي الْجَنَّةِ، مُضَرَّجَةً قَوَادِمُهُ بِالدِّمَاءِ، يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ".
وروى البخاري أيضًا أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا حيَّا ابن جعفر قال: "السلام عليك يابن ذي الجناحَيْنِ".
فقد أبدل الله جعفر بن أبي طالب بدلاً من يديه اللتين قطعتا في سبيله بجناحَيْنِ يطير بهما في الجنة.
حياة جهادية طويلة، والمكافأة هي الجنة.
عبد الله بن رواحة القائد والشهيد الثالث
حمل الراية بعد جعفر عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري ذلك المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات السابقة، وجاهد -كما ذكرنا- بسيفه ولسانه، وهو الذي كان يحمِّس المسلمين لأخذ قرار الحرب، وهو الذي كان يتمنى ألاّ يعود إلى المدينة، بل يُقتل شهيدًا في أرض الشام.
حمل الراية، وقاتل قتالاً عظيمًا مجيدًا حتى قُتل في صدره ما تردد قَطُّ كما أشيع عنه، وكيف يتردد من يدفع الناس دفعًا إلى القتال؟! كيف يتردد من يحمس الناس على طلب الشهادة؟ كيف يتردد من يثق به رسول الله ، فيجعله على قيادة هذا الجيش الكبير؟! كيف يتردد من شهد له أنه شهيد؟! ومن دعا له قبل ذلك بالثبات؟!
وهذا التردد الذي أشيع عنه لم يتفق عليه عامَّة أهل السير، ولم ينقله الكثير من كُتَّابهم، فلم ينقله موسى بن عقبة في (مغازيه)، ولم ينقله المقريزي في (إمتاع الأسماع)، ولم ينقله ابن سعد في (الطبقات)، وإنما روى ذلك فقط ابن إسحاق رحمه الله في (سيرته).
وفي هذه الرواية تناقض شديد بين أول الرواية وآخرها؛ ففي أولها جهاد وتحفيز على الشهادة، وفي آخرها تردد، وهذا لا يستقيم.
أما ما ورد في سيرة ابن إسحاق أيضًا من أن هناك ازورارًا في سرير عبد الله بن رواحة في الجنة، فهو حديث منقطع السند، وضعفه ابن كثير والبيهقي، وقد عارضه أيضًا ابن كثير بحديث أنس بن مالك في البخاري، والذي ذكر فيه أن عبد الله بن رواحة قُتل شهيدًا، ولم يذكر ترددًا، ولم يُشِرْ إلى ذلك قَطُّ.
ولعل الذي أشاع أن عبد الله بن رواحة قد تردد هو ما نُسب إليه من شعر في هذا الموقف، لكن هذا الشعر -إن صحت نسبته- لا يحمل أبدًا معنى عدم الإقدام، إنما يحمل معنى تحميس النفس على شيءٍ خطير، يحمل على بذل الروح والتضحية بالنفس.
إن تحمل آلام الضرب بالسيف، والطعن بالرمح ليس أمرًا سهلاً أو هينًا في حياة الإنسان، فإذا قال الإنسان لنفسه بعض الكلمات التي تصبِّره على تحمل الآلام، وتصبره على فراق الأحبة، وتدفعه إلى الموت لا إلى الحياة، فما الضرر في ذلك؟! إن هذا أمر محمود، بل وقد يكون مطلوبًا، وقد كان من شعره يومئذٍ:
يَا نَفْسُ إِنْ لَمْ تُقْتَلِي تَمُوتِـي ** هَذَا حِمَامُ الْمَوْتِ قَدْ صُلِيتِ
وَمَا تَمَنَّيْتِ فَقَـدْ أُعْطِيـتِ ** إِنْ تَفْعَلِـي فِعْلَهُمَا هُدِيـتِ
يحدِّث نفسه: إن تفعلي كما فعل زيد وجعفر رضي الله عنهما هديت. وبالفعل كان قتاله شديدًا، وجهاده عظيمًا حتى طعن في صدره ، وتلقى الدماء بيديه ودلَّك بها وجهه، وأصيب شهيدًا كما ذكر في مسند أحمد، وسنن النسائي، والبيهقي عن أبي قتادة بسند صحيح.
فهذه كلها روايات صحيحة في حق هذا البطل الذي شُوِّهت صورته بهذا الأمر الذي لا يستقيم في حقه أبدًا، وهو الذي دفع المسلمين هذا الدفع في هذه المعركة الهائلة.
سقط القادة الثلاثة شهداء ليثبتوا لنا وللجميع أن القيادة مسئولية، وأن الإمارة تكليف وليست تشريفًا، وأن القدوة هي أبلغ وسائل التربية.
فثباتهم -لا شك- كان سببًا في ثبات الجيش الإسلامي، وجهادهم لا بد أنه قد دفع الجيش الإسلامي لأنْ يُخرِج كل طاقته، فما يفر الجنود إلا بفرار القادة، وما تسقط الراية إلا بهوانها على حاملها، لكن في مؤتة ما سقطت راية المسلمين قَطُّ، ولا لحظة من لحظات القتال.
خالد بن الوليد القائد الرابع
بعد استشهاد البطل العظيم عبد الله بن رواحة ، حمل الراية الصحابي الجليل ثابت بن أقرم البدريّ (ممن شهد بدرًا) ، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت تحمل الراية. فقال: ما أنا بفاعل. ثم تقدم إلى خالد بن الوليد القائد المعجزة، فدفع له الراية، وقال له: أنت أعلم بالقتال مني. فقال خالد -وعمره في الإسلام ثلاثة أشهر- متواضعًا: أنت أحق بها مني، أنت شهدت بدرًا.
فنادى ثابت: يا معشر المسلمين. فاجتمع الناس على خالد، وأعطوه الراية، فحمل خالد الراية، وجاهد جهادًا عظيمًا يُكفِّر به عن العشرين سنة الماضية.
هذا أول مواقفه في سبيل الله، ولا بد أن يُرِي الله منه بأسًا وقوة وجلدًا وإقدامًا، قاتل خالد بن الوليد كما لم يقاتل من قبلُ، حتى قال -كما في صحيح البخاري-: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية"
تسعة أسياف تكسَّرت في يديه وهو يحارب الرومان، فتخيل كم من البشر قتل بهذه الأسياف، ومع ذلك فقد استمر في قتاله يُغيِّر سيفًا بعد الآخر، ويقاتل في معركة ضارية، لكنه ثبت ثباتًا عجيبًا، وثبت المسلمون بثباته، رضي الله عنه وأرضاه.
وعلى هذا الحال استمر القتال يومًا كاملاً، ما تراجع المسلمون فيه لحظة واحدة، وإنما وقفوا كالسدِّ المنيع أمام طوفان قوات التحالف الرومانية العربية، واستمر الحال على هذا الوضع حتى جنَّ المساء. ولك أن تتخيل قتالاً منذ الصباح وحتى المساء، وثلاثة آلاف في مقابل مائتي ألف.
خالد بن الوليد وخطته العبقرية :
لم يكن من عادة الجيوش في ذلك الوقت أن تقاتل ليلاً، فكان أن تحاجز الفريقان، واستراح الرومان ليلتهم هذه، لكن المسلمين لم يركنوا إلى الراحة، وإنما كانوا في حركة دائبة؛ فقد بدأ خالد بن الوليد في تنفيذ خُطَّة عبقرية بارعة للوصول بجيشه إلى برِّ الأمان، وكان هدفها إشعار الرومان بأن هناك مددًا كبيرًا قد جاء للمسلمين؛ وذلك حتى يتسلل الإحباط إلى داخل جنود الرومان والعرب المتحالفين معهم، فهم أمْسِ كانوا يتقاتلون مع ثلاثة آلاف وقد رأوا منهم ما رأوا، فكيف إذا جاءهم مدد؟!
ولتنفيذ هذه الخطة قام خالد بن الوليد بالخطوات التالية:
أولاً: جعل الخيل طوال الليل تجري في أرض المعركة لتثيرَ الغبار الكثيف؛ فيُخيَّل للرومان أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين.
ثانيًا: غَيَّر من ترتيب الجيش، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة، وحين رأى الرومان هذه الأمور في الصباح، ورأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيَّرت، أيقنوا أن هناك مددًا قد جاء للمسلمين، فهبطت معنوياتهم تمامًا.
ثالثًا: جعل في خلف الجيش وعلى مسافة بعيدة منه مجموعةً من الجنود المسلمين فوق أحد التلال، منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم من شغل إلا إثارة الغبار لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي للمسلمين.
رابعًا: بدأ خالد بن الوليد في اليوم التالي للمعركة بالتراجع التدريجي بجيشه إلى عمق الصحراء، الأمر الذي شعر معه الرومان بأن خالدًا يستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فترددوا في متابعته، وقد وقفوا على أرض مؤتة يشاهدون انسحاب خالد، دون أن يجرءوا على مهاجمته أو متابعته.
ونجح مراد خالد بن الوليد، وسحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء، ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالمًا.
شهداء المسلمين :
لقد أستشهد من المسلمين في هذه المعركة أثنا عشر فقط فيما قتل من الكفار الألاف ،،
وشهداء المسلمين هم : زيد بن حارثة ،، جعفر بن ابي طالب ،، عبد الله بن رواحة ،، مسعود بن الاسود ،، وهب بن سعد ،، عباد بن قيس ،، عمرو بن سعد ،، الحارث بن النعمان ،، سراقة بن عمرو ،، أبو كليببن عمرو ،، جابر بن عمرو ،، وعامر بن سعد ،،
قاتل خالد بن الوليد كما لم يقاتل من قبلُ، حتى قال -كما في صحيح البخاري-: "لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف،، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية" ،،
ويعد الانسحاب التكتيكي الرائع في غزوة مؤتة , وإنقاذه الجيش المسلم من مذبحة كانت محققة عن طريق مناورة عسكرية رائعة تستحق أن تُدرس في كليات الأركان العسكرية.
يتبع ،،